(وجاءت سكرة الموت بالحق).. الموت ونعمة الصبر
إكرام جلالإن أعظم حقيقة في الحياة في حياتنا.. هي الموت.. بل هو
الحقيقة الوحيدة التي يجب ألا نتناساها ونغفل عنها.. وتكون أمام أعيننا في
كل لحظة من لحظات أعمارنا.. وكل دقة من دقات قلوبنا..
قال سعيد بن جبير: "لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد"
وكم من مُصلي للعشاء ما أدرك الفجر.. وكم من متلذذ بلحظة.. إلا وباغته فجأة فاغتم.. وكم من ذاكر لربه.. قائم ساجد.. فاستقبله بفرحة..
من منا لن يطوله الموت {
كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185]
فكم من الناس يكره ذكر الموت.. وإذا ذكر أمامه قال: أعوذ بالله!
فيا حسرة من طول الأمل الذي يجعل البشر مستمسكون بالحياة والمال وزخارفها
الزائفة.. ما لهم يطغون ويتكبرون ويتجبرون ويظلمون وينهبون ويقسون وينسون
المُعذبون.. المُشردون.. المُحاصرون.
فهم يعيشون وكأنهم مُخلدون فيها؟ فمتى تلين القلوب وتنصهر الأرواح خشية وخضوعا لله {
ألم يأنِ لِلَّذِينَ آمنوا أن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ اَلحَقِّ} [الحديد:16].
وطول الأمل سببه حب الدنيا، والجهل، أما حب الدنيا فلا شافي له إلا الإيمان
بالله واليوم الآخر، وتذكر ما فيه من عظيم العقاب وكثرة الثواب..
وذكر الموت من أسباب الشفاء، وإذا ما تذكرنا من جاءهم الموت بغتة، فمن كان
منهم مغمور بطول الأمل ينام ويصحو به فقد خسر خسرانا مبينا، وأما من كان
ينتظر دنوه فقد فاز فوزا عظيما.
أما الجهل فيجعل الإنسان يستبعد الموت إما لشبابه أو لصحته، ونسي أن الموت لا يعرف شابا أو كهلا، صحيحا أم سقيما.
قال صلى الله عليه وسلم: "
إذا أصبحت فلا تُحدث نفسك
بالمساء وإذا أمسيت فلا تُحدث نفسك بالصباح، وخذ من حياتك لموتك ومن صحتك
لسقمك، فإنك يا عبد لا تدري ما أسمك غدا" رواه البخاري.
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: "ثلاثة أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل الدنيا
والموتُ يطلبه، وغافل وليس يُغفل عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط رب
العالمين عليه أم راض، وثلاثة أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة – محمد
وحزبه – وهول المطلع والوقوف بين يدي الله ولا أدري إلى الجنة يؤمر بي أو
إلى النار".
الصبر على الموت من أعظم الابتلاءات قال صلى الله عليه وسلم: "
الصبر عند الصدمة الأولى" متفق عليه.
وليس الموت موت الأجساد فقط، فكم من قلوب وضمائر ماتت.. وأرواح ذوت وانطفأ بريقها..
ولقد علمنا ربنا ما يقال عند المصيبة والأجر الكبير للصابرين {
وَلَنَبلُونَّكُم
بِشَيءٍ مِّنَ الخَوفِ وِالجُوعِ وَنَقصٍ مِّنَ الأَموَالِ والأَنفُسِ
وِالثَّمَرَاتِ وَبَشِّر الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إذا أَصَابَتهُم
مُّصِيبِةُُ قالوا إِنَّا لِلَّهِ وِإِنَّا ِلَيهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ
عَلَيهِم صِلَوَاتُ ُمن رَّبِّهِم وِرِحمَةُ ُوَأُولَئِكَ هُمُ
المُهتَدُونَ} [البقرة: 155 – 157].
قال صلى الله عليه وسلم: "
ما من مسلم تصيبه مصيبة
فيقول: ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي
واخلف لي خيرا منها – إلا أخلف الله له خيرا منها" رواه مسلم.
والله تعالى لم يجعل شيئا إلا وله حكمه وفيه نعمة، وحتى في الموت في كثير
من الأحيان رحمة ومنحة من الله، والواجب على العبد الصبر على البلاء
والشدة، وليعلم أن ما وقع له من النعم أكثر مما أصابه، وليحمد الله على
ذلك، ويسترجع.. ويرجو ثواب الله.. قال ابن المبارك: "المصيبة واحدة فإن جزع
صاحبها صارت المصيبة اثنتين، أحدهما المصيبة والثانية ذهاب أجرها".
ومن أعظم ابتلاءات الموت، موت الأبناء، وبقدر عظم البلاء يكون عظم الأجر،
ولابد من التسليم لأمر الله تعالى فهو قدر الله.. وأمر الله واقع لا محالة
رضينا أم أبينا، فإذا لم نرضى ذهب الأجر أدراج الرياح، قال علي رضي الله
عنه: "إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور- لك أجر وثواب- وإن جزعت جرى عليك
القلم وأنت مأزور- عليك وزر وذنب-"..
وقال صلي الله عليه وسلم: "
يقول الله تعالى:ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة"
رواه البخاري.(قبضت صفيه: أخذت حبيبه المصافي له كالولد والأخ وكل من يحبه
الإنسان ويتعلق به- بالموت، احتسبه: صبر على فقده وطلب الأجر من الله
تعالى وحده).
هذا والحزن والبكاء جائزان فقد كانت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، وابنه إبراهيم يجود بنفسه وقال: "
إن العين تدمع والقلب يحزنُ، ولا نقول إلا ما يَرضي رَبُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمَحزُنُون" صحيح البخاري.
ولكن المنهي عنه النوح واللطم لأنه من فعل الجاهلية، قال صلى الله عليه وسلم:
"
ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب وَدَعا بدعوى الجاهلية" صحيح البخاري.
وقد مرت أعرابية على بعض الناس، فوجدتهم يصرخون فقالت:ما هذا؟ فقيل لها:
مات لهم إنسان، فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون وبقضائه يتبرمون، وعن
ثوابه يرغبون.
دعاء التعزية أرسلت بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أن ابني قد احتضر فأشهدنا، فأرسل يقرئُ السلام ويقول: "
إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب" متفق عليه.
إبراء ذمة المتوفىمن الأشياء الواجبة التي أُحب لفت القلوب إليها أداء الدين عن المتوفى، وهذا واجب قبل الوصية وتقسيم الميراث.. {
من بعد وصية يوصين بها أو دين}، {
من بعد وصية توصون بها أو دين}، {
من بَعدِ وصيَّةٍ يُوصَى بِها أو دينٍ غير مُضَارٍ} [النساء:12].
قال ابن كثير في التفسير: أجمع علماء السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية.
وهذا لأنه يتعلق بحق الآخرين، فلا بد من استيفائه من مال المورث الذي
استدان طالما قد ترك مالا، توفية بحق الدائن وتبرئة لذمة المدين.
وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من الدين، وإذا لم يكن للمتوفى مالا فعلى
أقاربه القادرين قضاء الدين مهما كلفهم الأمر إلا أن يكونوا مُعسرين أو غير
قادرين، ومن تكفل عن متوفى دينا فليس له أن يرجع،
أُتيَ
النبي صلى الله عليه بجنازة لِيُصلي عليها، فقال: "هل عليه من دين؟ قالوا:
لا، فصلى عليه، ثُم أُتيَّ بجنازة أخرى، فقال: هل عليه من دين؟ قالوا:نعم،
فقال: "صلوا على صاحبكم". قال أبو قتادةَ: عليَّ دينه يا رسول الله، فصلى
عليه" صحيح البخاري.
وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من المدين كي تقوم الحياة على أساس من تحرج
الضمير، ومن الثقة في المعاملة، فجعل الدين في عنق المدين لا تبرأ منه
ذمته ولو بوفاته، فهي أمانة من الأمانات التي أمر الله بتأديتها {
إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا} [النساء:58].
مثوبة الصبر والحمدولو علم العبد ما في الصبر والحمد من النعم والمثوبة لصبر وحمد.. قال ابن
القيم رحمه الله: "فلولا أن الله سبحانه وتعالى يداوي عباده بأدوية المحن
والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبده خيراً
سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء
المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهَلَّهُ لأشرف مراتب الدنيا، وهي
عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة، وهيَّ رؤيته وقربه" زاد المعاد.
قال: زهير ابن أبي سلمة:
ثلاث يعز الصبر عند حلولها * ويذهل عنها عقل كل لبيب
خروج اضطرار من بلد يحبها* وفرقة إخوان وفقد حبيب
فاللهم ثبتنا وأمتنا على دينك.. وصبرنا على فراق
الأحباب والأهل والخلان.. واجعل مثواهم الجنة.. وأملأ قبورهم بالرضا والنور
والفسحة والسرور.. واجعلها روضة من رياض الجنة.. اللهم من صبر منهم على
البلاء فلم يجزع فامنحه درجة الصابرين.. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا
بعدهم..آمين.