والايمان نصفان:
نصف صبر ونصف شكر قال غير واحد من السلف الصبر نصف الايمان وقال عبدالله
بن مسعود رضى الله عنه: "الايمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" ولهذا جمع الله
سبحانه بين الصبر والشكر في قوله {ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور} في سورة
ابراهيم وفي سورة حمعسق وفي سورة سبأ وفي سورة لقمان وقد ذكر لهذا التنصيف
اعتبارات
أحدها أن الايمان اسم لمجموع القول والعمل
والنية وهى ترجع إلى شطرين فعل وترك فالفعل هو العمل بطاعة الله وهو حقيقة
الشكر والترك هو الصبر عن المعصية والدين كله في هذين الشيئين فعل المأمور
وترك المحظور
الاعتبار الثانى أن الايمان مبنى على ركنين
يقين وصبر وهما الركنان المذكوران في قوله تعالى {وجعلناهم أئمة يهدون
بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فباليقين يعلم حقيقة الامر والنهى
والثواب والعقاب وبالصبر ينفذ ما أمر به ويكف نفسه عما نهى عنه ولا يحصل
له التصديق بالامر والنهى انه من عند الله وبالثواب والعقاب الا باليقين
ولا يمكنه الدوام على فعل المأمور وكف النفس عن المحظور الا بالصبر فصار
الصبر نصف الايمان والنصف الثانى الشكر بفعل ما أمر به وبترك ما نهى عنه
الاعتبار الثالث أن الايمان قول وعمل
والقول قول القلب واللسان والعمل عمل القلب والجوارح وبيان ذلك أن من عرف
الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمنا كما قال عن قوم فرعون {وجحدوا بها
واستيقنتها أنفسهم} وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح {وعادا وثمود وقد تبين
لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين}
وقال موسى لفرعون {لقد علمت ما أنزل هؤلاء الا رب السموات والارض بصائر}
فهؤلاء حصل قول القلب وهو المعرفة والعلم ولم يكونوا بذلك مؤمنين وكذلك من
قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمنا بل كان من المنافقين وكذلك من
عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمنا حتى يأتى بعمل القلب من
الحب والبغض والموالاة والمعاداة فيحب الله ورسوله ويوالى أولياء الله
ويعادى أعداءه ويستسلم بقلبه لله وحده وينقاد لمتابعة رسوله وطاعته والتزام
شريعته ظاهرا وباطنا واذا فعل ذلك لم يكف في كمال ايمانه حتى يفعل ما امر
به
فهذه الاركان الاربعة هى أركان الايمان التى قام عليها بناؤه وهى ترجع إلى
علم وعمل ويدخل في العمل كف النفس الذى هو متعلق النهى وكلاهما لا يحصل الا
بالصبر فصار الايمان نصفين أحدهما الصبر والثانى متولد عنه من العلم
والعمل
الاعتبار الرابع أن النفس لها قوتان قوة الاقدام وقوة الاحجام وهى
دائما تتردد بين أحكام هاتين القوتين فتقدم على ما تحبه وتحجم عما تكرهه
والدين كله اقدام واحجام اقدام على طاعة واحجام عن معاصى الله وكل منهما لا
يمكن حصوله الا بالصبر
الاعتبار الخامس أن الدين كله رغبة ورهبة فالمؤمن هو الراغب الراهب
قال تعالى انهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وفي الدعاء
عند النوم الذى رواه البخارى في صحيحه"اللهم انى أسلمت نفسى اليك ووجهت
وجهى اليك وفوضت امرى اليك وألجأت ظهرى اليك رغبة ورهبة اليك" فلا تجد
المؤمن أبدا الا راغبا وراهبا والرغبة والرهبة لا تقوم الا على ساق الصبر
فرهبته تحمله على الصبر ورغبته تقوده إلى الشكر
الاعتبار السادس ان جميع ما يباشره العبد
في هذه الدار لا يخرج عما ينفعه في الدنيا والآخرة أو يضره في الدنيا
والاخرة أو ينفعه في أحد الدارين ويضره في الاخرى وأشرف الاقسام أن يفعل ما
ينفعه في الاخرة ويترك ما يضره فيها وهو حقيقة الايمان ففعل ما ينفعه هو
الشكر وترك ما يضره هو الصبر
الاعتبار السابع ان العبد لا ينفك عن أمر يفعله ونهى يتركه وقدر
يجرى عليه وفرضه في الثلاثة الصبر والشكر ففعل المأمور هو الشكر وترك
المحظور والصبر على المقدور هو الصبر
الاعتبار الثامن إن العبد فيه داعيان داع يدعوه إلى الدنيا وشهواتها
ولذاتها وداع يدعوه إلى الله والدار الآخرة وما أعد فيها لأوليائه من
النعيم المقيم فعصيان داعى الشهوة والهوى هو الصبر وإجابة داعى الله والدار
الآخرة هو الشكر
الاعتبار التاسع ان الدين مداره على أصلين العزم والثبات وهما
الأصلان المذكوران في الحديث الذى رواه أحمد والنسائى عن النبي: "اللهم إنى
أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد" وأصل الشكر صحة العزيمة وأصل
الصبر قوة الثبات فمتى أيد العبد بعزيمة وثبات فقد أيد بالمعونة والتوفيق
الاعتبار العاشر ان الدين مبنى على أصلين الحق والصبر وهما المذكوران في قوله تعالى
{وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} ولما كان المطلوب من العبد هو العمل بالحق في نفسه وتنفيذه في الناس وكان هذا
هو حقيقة الشكر لم يمكنه ذلك إلا بالصبر عليه فكان الصبر نصف الايمان والله سبحانه وتعالى أعلم