ظاهرة الغش
انتشر في المجتمعات ظاهرة الغش ، فما هو موقف الشريعة من هذه الظاهرة ؟ .
الحمد لله
لقد
ذم الله عز وجل الغش وأهله في القرآن الكريم وتوعدهم بالويل ويفهم ذلك من
قوله تعالى : ( ويل للمطففين – الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون – وإذا
كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) المطففين/1
فهذا وعيد شديد للذين يبخسون
– ينقصون – المكيال والميزان ، فكيف بحال من يسرقها ويختلسها ويبخس الناس
أشياءهم ؟! إنه أولى بالوعيد من مطففي المكيال والميزان .
وقد حذر نبي الله شعيب عليه السلام قومه من بخس الناس أشياءهم والتطفيف في المكيال والميزان كما حكى الله عز وجل ذلك عنه في القرآن .
وكذلك
حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغش وتوعد فاعله ، وذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً ، فقال
: ( ما هذا يا صاح بالطعام ؟ ) قال : أصابته السماء يا رسول الله ، قال : (
أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ؟ من غش فليس مني ) وفي رواية ( من
غشنا فليس منا ) وفي رواية ( ليس منا من غشنا ) رواه مسلم .
فكفى باللفظ النبوي : " ليس منا " زاجراً عن الغش ، ورادعاً من الولوغ في حياضة الدنسة ، وحاجزاً من الوقوع في مستنقعه الآسن .
إننا
يا أخي في حاجة شديدة إلى عرض هذا الوعيد على القلوب لتحيا به الضمائر ،
فتراقب الله عز وجل في أعمالها ، دون أن يكون عليها رقيب من البشر .
وصدق من قال :
ولا ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن منها لها زاجر
ولا
يكن مثلنا في معالجة هذه الظاهرة ، وغيرها من الظواهر المدمرة في المجتمع –
كمريض بالزائدة الدودية يحتاج إلى مبضع الجراح .. فتعمل له كمادات ساخنة
عساها تخفف الألم .. إن المريض سيموت قبل التفكير في استدعاء الطبيب .
وإليك يا أخي المبارك وقفات مع ظاهرة الغش بعد ما علمت ما رُتب عليه من الوعيد :
تعريف الغش :
قال المناوي : الغش ما يخلط الرديء بالجيد .
وقال ابن حجر الهيثمي : الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئاً لو اطلع مريد أخذها ما أخذ بذلك المقابل
وقال الكفوي : الغش سواد القلب ، وعبوس الوجه ، ولذا يطلق الغش على الغل والحقد .
مظاهر الغش : إن المتأمل في واقع كثير من الناس ليجد أنهم يمارسون صوراً من الغش في جميع شؤون حياتهم ومن ذلك :
أولاً : الغش في البيع والشراء :
وما
أكثره في زماننا في أسواق المسلمين !! ويكون الغش فيهما بمحاولة إخفاء
العيب ، ويكون في طرق أخرى كالغش في ذاتية البضاعة أو عناصرها أو كميتها ،
أو وزنها أو صفاتها الجوهرية أو مصدرها .
وإليك طرقاً من مظاهر ذلك على التفصيل :
1-
بعض البائعين للفاكهة يضع في نهاية القفص المعد لبيع الفاكهة أوراقاً
كثيرة ، ثم يضع أفضل هذه الفاكهة أعلى القفص ، وبذلك يكون قد خدع المشتري
وغشه من جهة أن المشتري يظن أن القفص مليء عن آخره ، ومن جهة أنه يظن أن كل
القفص بنفس درجة الجودة التي رآها في أعلاه .
2- ويعضهم يأتي بزيت
الطعام ويخلطه ببعض العطور وعلى أن تكون كمية الزيت على الغالبة ويضعها في
عبوات زجاجية ويخرج منها ريح العطر ويبيعه بثمن قليل .
3- وبعض
التجار يشتري سلعة في ظرف خفيف جداً ثم يجعلها في ظرف ثقيل نحو خمسة أضعاف
الأول ، ثم يبيع ذلك الظرف وما فيه ، ويوزن جملة الكل ، فيكون الثمن
مقابلاً للظرف والمظروف .
4- وبعض التجار يخيط الثياب خياطة ضعيفة ثم يبيعها من غير أن يبين أن هذا مخيط ، بل ويحلف بالله أنه لجديد وما هو بجديد فتباً له !!
5- وبعضهم يلبس الثوب خاماً إلى أن تذهب قوته جميعها ثم يقصره حينئذٍ ويجعل فيه نشاً يوهم بأنه جديد ويبيعه على أنه جديد .
6- وبعض العطارين يقرب بعض السلع إلى الماء كالزعفران مثلاً فتكتسب منا مائية تزيد وزنه نحو الثلث .
7-
وبعض التجار وأصحاب المحلات يسعى إلى إظلام محله إظلاماً كثيراً باستخدام
الإضاءة الملونة أو القاتمة ، حتى يعيد الغليظ من السلع والملابس خصوصاً
رقيقاً والقبيح حسناً ، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم .
8- وبعض الصائغين يخلط الذهب نحاساً ونحوه ، ثم يبيعه على أنه كله ذهب .
9- وبعضهم يعمد إلى شراء ذهب مستعمل نظيف ، ثم يعرضه للبيع بسعر الجديد دون أن ينبه المشتري على أنه مستعمل .
10- يعمد بعض البائعين في مزاد السيارات إلى وضع زيت ثقيل في محرك السيارة حتى يظن المشتري أنها بحالة جيدة .
11-
وبعضهم يعمد إلى عداد الكيلو في السيارة الذي يدل على أنها سارت
كثيراً فينقصه بحيلة حتى يوهم المشتري بذلك أنها لم تسر إلا قليلاً .
12-
وبعضهم إذا كان معه سيارة يريد بيعها ، ويعلم فيها خللاً خفياً ،
قال لمن يريد شراءها : هذه السيارة أمامك جربها إن أردتها ، ولا يخبره بشيء
عنها ... ولعمر الله إنه لغش وخداع .
13- ويعضهم يعمد إلى
ذكر عيوب كثيرة في السيارة وهل ليست بصحيحة ، ويهدف من وراء ذلك إلى إخفاء
العيوب الحقيقة في السيارة تحت هذه العيوب الوهمية المعلن عنها .
والأدهى من ذلك أنه لا يذكر العيوب إلا بعد البيع وتسليم العربون ، ولا يمّكن المشتري من فحص السيارة بل لا يسمح له بذلك .
14-
وبعضهم إذا كان معه سيارة يريد بيعها صار يمدحها ويحلف بالله أنها
جيدة ويختلق أعذراً لسبب بيعها ، والله عز وجل يعلم السر وأخفى .
15- وبعضهم يتفق مع صاحب له ليزيد في ثمن السلعة فيقع فيها غيره ، وهذا هو النجش الذي نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
16- ومن الغش في البيع أن يقوم القصّاب – الجزار – بنفخ الذبيحة التي يراد بيعها ، ليبين للمشتري أن المنفوخ كله لحم .
17- ويعضهم يعمد في مزاد الأغنام إلى تغذيتها بالملح – وكذلك محلات بيع الدجاج – حتى يظن المشتري أنها سمينة وهي خلاف ذلك .
18-
وبعض أصحاب بهيمة الأنعام يعمد إلى صر – أي شد وربط – ضرع ذات اللبن
من بهيمة الأنعام قبل بيعها بأيام ليظهر أنها حليب ، وهي ليست كذلك فلا
ينطلق لها ضَرع إلا بعد تَضَرّع !!
19- ...
20- ...
وأدع
لك المجال لتضيف ما خطر في ذهنك من صور الغش في البيع والشراء ، وأعيذك
بالله إن كنت بائعاً أو مشترياً من الغش والاتصاف بشيء مما سبق .
ثانياً : الغش في الزواج :
ومن مظاهر الغش فيه ما يلي :
1-
أن يقدم بعض الآباء للمتقدم لإحدى بناته ابنته الصغيرة البكر ، ويوم
البناء – ليلة العرس – يجدها الكبيرة الثيب ، فيجد بعضهم لا مناص ولا هروب
من هذا الزواج .
2- وبعض الآباء وأولياء النساء يُري الخاطب البنت الجميلة ، ويوم البناء يرى أنها الدميمة القبيحة فيضطر للقبول – إن قبل .
3- وبعض الآباء قد يخفي مرضاً أو عيباً في ابنته ولا يبنه للخاطب ليكون على بينة ، فإذا دخل بها اكتشف ما فيها من مرض أو عيب .
4-
وبعض الآباء وأولياء البنات إذا طلب منهم الخاطب رؤية المخطوبة – وهو
جائز بشروطه – أذنوا في ذلك بعد أن تملأ وجهها بكل الألوان والأصباغ التي
تسمى " مكياجاً " لتبدو جميلة في عينيه ، ولو نظر إليها دون هذا القناع من
المساحيق لما وقعت في عينيه موقع الرضا . أليس هذا غشاً يترتب عليه مفاسد
عظيمة في حق الزوج والزوجة .
5- وبعض الأولياء يعمد إلى تزويج موليته دون بذل جهد معرفة حال الخاطب وتمسكه بدينه وخلقه ، وفي هذا غش للزوجة وظلم لها .
6-
ومن الغش في الزواج أن يعمد الخاطب إلى التشبع بما لم يعط ، فيُظهر أنه
صاحب جاه وأنه يملك من العقارات والسيارات الشيء الكثير ، بل ويسعى إلى
استئجار سيارة فارهة تكلف المئات من الريالات ليُظهر بأنه يملك ، ولا يملك
في الحقيقة شيئاً .
7- ومن الغش كذلك أن يعمد بعض الناس إلى تزكية
الخاطب عند من تقدم لهم ، ومدحه والإطراء عليه وأنه من المصلين الصالحين ،
مع أن هذا الخاطب لا يعرف للمسجد طريقاً .
فكفى أيها الأحبة غشاً وخداعاً يهدم البيوت ويشتت الأسر .
8-
ومن الغش ما تقوم به بعض النساء – وخاصة الكبيرات – من الفلج – وهو برد
الأسنان لتحصل بينها فرجة لطيفة تظهر بها الكبيرة صغيرة ، فيظن الخاطب أنها
كذلك فإذا تزوجها اكتشف أنها بلغت من الكبر عتياً ، وقد لعن النبي صلى
الله عليه وسلم المتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى .
ثالثاً : الغش في النصيحة .
وذلك بعدم الإخلاص فيها ، والقصد من بذلها أغراض دنيوية وأغراض دينية ، ومن حق الأخوة بين المؤمنين نصحه والمنافقون غششة .
والمؤمن
مرآة أخيه إذا رأى فيه عيباً أصلحه ، والنصيحة تكون بكف الأذى عن المسلمين
، وتعليمهم ما يجهلونه من دينهم ، وإعانتهم عليه بالقول والفعل ، وستر
عوراتهم ، وسد خلاتهم ، ودفع المضار عنهم ، وبجلب النافع لهم ، وأمرهم
بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، برفق وإخلاص ، والشفقة عليهم ، وتوقير كبيرهم ،
ورحمة صغيرهم ، وتخولّهم بالموعظة الحسنة ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من
الخير ، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه من المكروه .
روى الحافظ أبو
القاسم الطبراني بإسناده أن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أمر
مولاه أن يشتري له فرساً ، فاشترى له فرساً بثلاثمائة درهم ، وجاء به
وبصاحبه لينقده الثمن ، فقال له جرير لصاحب الفرس – انظر إلى النصيحة :
فرسك خير م ثلاثمائة درهم ، أتبيعه بأربعمائة درهم ؟ قال : ذلك يا أبا عبد
الله .
فقال : فرسك خير م ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم ؟ ثم لم يزل
يزيده مائة فمائة ، وصاحبه يرضى وجرير يقول : فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة
فاشتراه بها ، فقيل له في ذلك : إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
على النصح لكل مسلم .
رابعاً : الغش في الرعية :
عن معقل بن
يسار المزني رضي الله عنه أنه قال في مرضه الذي مات فيه : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت
وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عيه الجنة " رواه البخاري ومسلم واللفظ له ،
وأحد لفظي البخاري : " ما من مسلم يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم
يجد رائحة الجنة " .
فهذا وعيد شديد يدخل فيه كل من استرعاه الله
رعية سواء كانت صغيرة أم كبيرة ، ابتداء من أفراد الأسرة الحاكمة ، فيجب
على الكل النصح لرعيته وعدم غشه .
فالموظف يجب عليه أن ينصح في
وظيفته وأن يؤديها على الوجه المطلوب شرعاً دون غش ولا خداع ، ودون تأخير
لأعمال الناس ومصالحهم ، وليعلم أنه موقوف بين يدي الله عز وجل ، فما ولاه
الله عز وجل هذه الوظيفة إلا ليديم النصح للمسلمين .
وكذلك الأب يجب
عليه أن ينصح أولاده ، وألا يفرط في تربيتهم بل يبذل كل ما يستطيع ليقي
نفسه وأولاده من نار وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد .
قال
ابن القيم رحمه الله : " وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة
بإهماله وترك تأديبه ، وإعانته على شهواته ، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه ،
وأنه يرحمه وقد ظلمه ، ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا
والآخرة ، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء . تحفة
المولود ص 146
خامساً : الغش في الامتحان
وما أكثر طرقه
ووسائله بين الطلاب والطالبات !! وسبب ذلك هو ضعف الوازع الديني ، ورقة
الإيمان ، وقلة المراقبة لله تعالى أو انعدامها .
قال سماحة شيخنا
عبد العزيز بن باز رحمه الله : " وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال : ( من غشنا فليس منا ) وهذا يعم الغش في المعاملات ، الغش في
الامتحان ، ويعم اللغة الإنجليزية وغيرها ، فلا يجوز للطلبة والطالبات الغش
في جميع المواد لعموم هذا الحديث وما جاء في معناه ، والله ولي التوفيق "
هذه بعض مظاهر الغش تدل على غيرها ، وهي غيض من فيض ، وقطرة من بحر ، ليحيا من حيي على بينة ويهلك من هلك على بينة.
وإلى
كل من وقع في صورة من صور الغش ذُكرت أو لم تُذكر نقول له : اتق الله يا
أخي واستشعر رقابة علام الغيوب ، وتذكر عقابه وعذابه ( إن ربك لبالمرصاد )
الفجر/14 واعلم أن الدنيا فانية وأن الحساب واقع على النقير والفتيل
والقطمير ، وأن العمل الصالح ينفع الذرية ، والعمل السيئ يؤثر في الذرية ،
قال تعالى : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم
فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً ) النساء/9 ، فمن تأمل هذه الآية خشي
على ذريته من أعماله السيئة وانكف عنها ، حتى لا يحصل لهم نظيرها .
ثم اعلم أن للغش مضاراً عظيمة وإليك بيانها في الوقفة التالية :
من مضار الغش :
1- الغش طريق موصل إلى النار
2- دليل على دناءة النفس وخبثها ، فلا يفعله إلا كل دنيء نفس هانت عليه فأوردها مورد الهلاك والعطب .
3- البعد عن الله وعن الناس .
4- أنه طريق لحرمان إجابة الدعاء .
5- أنه طريق لحرمان البركة في المال والعمر .
6- أنه دليل على نقص الإيمان .
7-
أنه سبب في تسلط الظلمة والكفار ، قال ابن حجر الهيثيمي : " ولهذه القبائح
– أي الغش – التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والبضائع سلط
الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم ، وهتكوا حريمهم ، وبل وسلط عليهم الكفار
فأسروهم واستعبدوهم ، وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً .
وكثرة
تسلط الكفار على المسلمين بالأسر والنهب ، وأخذ الأموال والحريم إنما حدث
في هذه الأزمنة المتأخرة لّما أن أحدث التجار وغيرهم قبائح ذلك الغش
الكثيرة والمتنوعة ، وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتحايلات الباطلة
على أخذ أموال الناس بأي طريق قدروا عليها ، لا يرقبون الله المطلع عليهم .