السلبية لا تخلق بطولة
الشيخ محمد الغزالى
أكره فتنة الغنى كما أكره فتنة الفقر الغنى قد يطغى والفقر قد يذل والمؤمن يأبى أن يكون طاغيا كما يأبى أن يكون ذليلا هل هذه كل آفات الغنى والفقر كلا إن الكثرة لقلة ربما خذلت الحق وجرأت عليه ومن هنا والقلة ربما خذلت الحق وجرأت عليه ومن هنا يسعى أهل الإيمان إلى دعم أنفسهم ومبادئهم بالمال الكثير والتمكين في الأرض وفي أدبنا العربي طرائف في هذا المعنى تستحق الذكر يقول عروة بن الورد:
دعيني أطوف في البلاد لعلني * * * أفيد فيه لذي الحق محمل
أليس عظيما أن لم ملمــــــــة * * * وليس علينا في الحقوق معول
ويخيل إلى أن الشافعي كان يتأوه وهو يرى المال قد فقد وظيفته الاجتماعية عند بعض الناس فهو يقول ضائقا محزونا:
وأنطقت الدراهم بعد صمت * * * أناسا طالما كانوا سكوتا
فما عطفوا على أحد بفضل * * * ولا عرفوا لمكرمة بيوتا
لكن هل الحياة لا تعرف إلا عنى طاغيا وفقر ذليلا كلا فما أكثر الأغنياء الشاكرين وما أكثر الفقراء المستعفين ما أكثر الذين ملكوا فدنوا وخدموا فأعانوا وما أكثر الذين حرموا فتماسكوا وانتصبت قاماتهم وعاشوا كراما
ويظهر أن بعض المفسرين وجامعي السنن فاتهم تسجيل هذه الحقائق فأساءوا من حيث لا يحتسبون إلى الأمة الإسلامية وإلى مسارها الحضاري وإلى موقفها أمام أعدائها مما يجعلنا نستنجد بالفقهاء كي يضعوا الأمور في مواضعها الصحيحة
فتحت عنوان (الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد وما جاء في فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين وحبهم ومجالستهم) ذكر الحافظ المنذري رحمه الله أكثر من مائة حديث لا ينتهي المرء من قراءتها حتى يقرر تطليق الدنيا بينونة كبرى.
وماذا يكسب الإسلام عندما يطلق المسلمون الدنيا ويتزوجها غيرهم وكيف تسير الأمة إذا
كأن عنى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قيدا يئودهما فلا يدخلان الجنة إلا زحفا؟ على حين تطير الصعلكة بأصحابها فيسبقون إلى النعيم المقيم
إن هذه الآثار تحتاج إلى مراجعة أسانيدها ومتونها وعناوينها والحشود التي أقبلت فيها
وأعلم أن جمهور الناس قد جرفتهم الطبيعة المادية للعصر الحديث ولكن الشباب الذي يريد العودة إلى ربه والاستقامة على طريقه يقرأ هذه المرويات فتغلبه الحيرة ويزيغ عن الصراط، ومثل هذا الاضطراب في ضبط القيم الدينية تجده في بعض التفاسير الشائعة
في تفسير سورة الصافات عند قوله تعالى:
(قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم
ذكر ابن كثير في تفسيره حكاية إسرائيلية عجيبة، كان هناك شريكان في عمل رأسماله ثمانية آلاف دينار أحد الشريكين بار والآخر فاجر وانفضت الشركة لأن الشريك الفاجر ضاق بصاحبه فهو لا حرفة له بينما الفاجر محترف ونسأل: لماذا لا يكون المؤمن صاحب حرفة وفي الحديث إن الله يحب المؤمن المحترف
وأخذ كل شريك نصيبه فاشترى الفاجر لنفسه دارا بألف دينار وتصدق البار بألف من عنده لتكون له دار في الجنة
ونسأل: لماذا لا تكون للرجل الصالح دار في الدنيا
ثم تزوج الفاجر بألف دينار فتصدق الرجل بألف دينار لتكون له زوجة من الحور العين في الآخرة ونسأل: لماذا لا يتزوج هذا التقي بإمرأة ينفق عليها ويعف نفسه ويعفها وتكتب له أجور وحسنات في الجنة لا حصر لها
واشترى الفاجر بساتين بالألفين الباقيتين عنده على حين تصدق البار بألفيه نظير بساتين في الدار الآخرة وبقى صعلوكا محسورا وهذا التصرف مرفوض شرعا
ولكن البر وابن كثير حكيا القصة على أن سياقها يشهد لقراءة أخرى: ( أئنك لمن المصدقين)
بتشديد الصاد أي المتصدقين وأسهب ابن كثير في شرح هذه القصة على نحو مثير ذكرت معه قصة الصوفي الذي وصف حظه من هذه الدنيا بقوله:
ليس لي والد ولا مولـــــــود * * * لا ولا حزت مذ عقلت عيالا
أجعل الساعد اليمين وسادي * * * ثم أثني ـ إذا انقلبت ـ الشمالا
وهذا منطق يجتث الحياة من جذورها إنني بهذا القول لا أريد أن أصوغ قصيدة غزل في جمال الحياة والإقبال عليها فأنا رجل مسلم أعلم أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم وأعلم أن تداعي الأمم علينا سببه حب الدنيا وكراهية الموت
إنني أريد إفهام المؤمنين أن الحياة في سبيل الله كالموت في سبيل الله جهاد مبرور وأن الفشل في كسب الدنيا يتتبع الفشل في نصرة الدين وأن الواجد الذي ينزل عما عنده خير من المفلس الذي لا ينزل عن شئ لأنه لا يملك أي شئ
إن السلبية لا تخلق بطولة
لأن البطولة عطاء واسع ومعاناة أشد