قال جابر رضي الله عنهما: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ، ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء"
الصيام صيام الجوارح ووسيلة لتحسين الأخلاق
شرع الإسلام الصوم ? فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة ? بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائما من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة. وإقرارا لهذا المعنى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور ? والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " وقال: "ليس الصيام من الأكل والشرب ? إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد ? أو تجهل عليك ? فقل: إنى صائم " . والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة/183]".
ويقول صلَّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل؛ فإن سابَّه أحد أو شاتمه فليقل:إني صائم)
وإذا كبَح الصوم المعاصي نال العبد منزلة راقية في العبودية لله ؛ لأنَّ الصوم ـ الذي يراد به مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ـ يستطيعه كثير من الناس ، بيدَ أنَّه ـ سبحانه ـ أراد من عباده أن يكون صومهم منقياً لهم من المعاصي وما دار في فلكها، وقد ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني أنَّ العلماء:" اتفقوا أنَّ المراد بالصيام صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً "
والحقيقة أنَّ الناس انقسموا في الصيام إلى عدَّة أقسام: فمنهم من يكون صيامه الإمساك عن الأكل والشرب فقط ، إلاَّ أنَّه مرتكب للفواحش مطلق بصرَه لما حرَّم الله من النظر إلى النساء غير المحارم، وبعضهم قد أرخى لأذنه لكي تستمع للأغاني المحرمة ، ولا يخفى على ذي لبٍّ ما فيها من الفسق والكلام الفاحش ، وبعضهم أطلق لفمه العنان بالكلام الساقط، والعبارات الرذيلة، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور والكذب؛ فهل هذا صيام من أراد جنَّة الرضوان ؟!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهو الصادق المصدوق حيث يقول:"رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظُّه من قيامه السهر"
إذا لم يكن في السمع مني تصاون * وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمت
فحظِّي إذاً من صومي الجوع والظما * فإن قلت: إني صمت يومي فما صمت
ولهذا فإنَّ هؤلاء الذين فرَّطوا بصيامهم يعتبرون محرومين في شهر الصوم ، مفلسين في شهر الجود والإحسان ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مرَّة لأصحابه :" أتدرون ما المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا، وضرب هذا . فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته . فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه . ثم طرح في النار"
• لا معنى لظاهر الصيام إن لم تتأدب النفوس:
من صام في نهار رمضان، ولم يصم لسانه من غيبة الآخرين وهتك أعراضهم، ولم تصم يده من إيذاء الآخرين والنيل منهم، ولم يصم قلبه من الأحقاد والغلِّ على إخوانه المسلمين، فإنَّ صيامه ناقص، وفيه تفريط كبير لحدود الله.
وممَّا يعجب له المطَّلع على أحوال بعض العوام حيث يحفظ هؤلاء حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ :(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهنَّ )( ) ثم يقفون عند هذا الحدِّ، وينسون أو يتناسون تكملة هذا الحديث:( إذا اجتنبت الكبائر).
فليدرك الإنسان نفسه ، وليجدد توبته لربه، وليبتعد عن منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال؛ فإنَّ رسول الهدى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول في الحديث الصحيح: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه)( ).
وما معنى حقيقة الصيام إن كان المرء يصوم عن الطعام والشراب، ولكنَّه لا يصوم عن السباب والفحش والبذاءة باللسان، ولا يصوم عن غض البصر عمَّا حرَّم الله؟!
ذكر الإمام ابن رجب ـ رحمه الله ـ أنَّ بعض السلف قال:" أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر رضي الله عنهما: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ، ودع أذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء!!"
يقول الإمام ابن رجب (فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام ، ثمَّ نرقعه ، وقد اتسع الخرق على الراقع، والمقصود أنَّ من أراد الصوم الحقيقي فليحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى ، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته:
أهل الخصوص من الصوام صومهم *** صون اللسان عن البهتان والكذبِ
والعارفون وأهل الأنس صومهم *** صون القلوب عن الأغيار والحجبِ)( )ـــــ
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وتتميم مكارم الأخلاق
لقد حدد رسول الإسلام الغاية الأولى من بعثته ? والمنهاج المبين فى دعوته بقوله: "إنما بُعِثتُ
لأتمم مكارم الأخلاق " . فكأن الرسالة التى خطت مجراها فى تاريخ الحياة ? وبذل صاحبها جهدا كبيرا فى مد شعاعها وجمع الناس حولها ? لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم ? وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم ? حتى يسعوا إليها على بصيرة..
وأركان الإسلام كذلك هدفها تحسين الأخلاق:
والعبادات التى شرعت فى الإسلام واعتبرت أركانا فى الإيمان به ليست طقوسا مبهمة من النوع الذى يربط الإنسان بالغيوب المجهولة ? ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها ? كلا فالفرائض التى ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه ? هىتمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة ? وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق ? مهما تغيرت أمامه الظروف.. إنها أشبه بالتمارين الرياضية التى يُقبل الإنسان عليها بشغف ? ملتمسا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة. والقرآن الكريم والسنة المطهرة ? يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق. فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها ? فقال: " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت/45]". فالإبعاد عن الرذائل ? والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة .
والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب ? بل هى أولا غرس لمشاعر الحنان والرأفة ? وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة/103]". فتنظيف النفس من أدران النقص ? والتسامى بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى. ومن أجل ذلك وسع النبى صلى الله عليه وسلم فى دلالة كلمة الصدقة التى ينبغى أن يبذلها المسلم فقال: "تبسمك فى وجه أخيك صدقة ?وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ? وإرشادك الرجل فى أرض الضلال لك صدقة ? وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ? وإفراغك من دلوك فى دلو أخيك لك صدقة وبصرك للرجل الردىء البصر لك صدقة" .
وهذه التعاليم فى البيئة الصحراوية التى عاشت دهورا على التخاصم والنزق تشير إلى الأهداف التى رسمها الإسلام ? وقاد العرب فى الجاهلية المظلمة إليها.
وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة الذى كلف بها المستطيع واعتبر من فرائض
الإسلام على بعض أتباعه يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة عن المعانى الخلقية ? ومثلا لما قد تحتويه الأديان أحيانا من تعبدات غيبية. وهذا خطأ ? إذ يقول الله تعالى فى الحديث عن هذه الشعيرة: " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة/197]". هذا العرض المجمل لبعض العبادات التى اشتهر بها الإسلام ? وعرفت على أنها أركانه الأصيلة ? نستبين منه متانة الأواصر التى تربط الدين بالخلق. إنها عبادات متباينة فى جوهرها ومظهرها ? ولكنها تلتقى عند الغاية التى رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله: "إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ".
فالصلاة والصيام والزكاة والحج ? وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام ? هى مدارج الكمال المنشود ? وروافد التطهر الذى يصون الحياة ويعلى شأنها ? ولهذه السجايا الكريمة التى ترتبط نجها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة فى دين الله. فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكى قلبه ? وينقى قلبه! ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى. قال الله عز وجل: " إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه/74-76]".
الأخلاق مقياس لدرجة إيمان العبد
من منا يتصور أن يكون أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، إذا أقمنا مسابقة بين المسلمين على تكملة الحديث، فقلنا لهم : أكملوا الحديث : " أكمل المؤمنين إيمانا....." كم منهم يتصور أن تكون التكملة أحسنهم خلقا، ما علاقة الخلق بالإيمان؟
الإيمان قوة عاصمة عن الدنيا ? دافعة إلى المكرمات ومن ثم فإن الله عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر ? يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر فى قلوبهم. وما أكثر ما يقول فى كتابه: " يا أيها الذين آمنوا " ثم يذكر بعدُ ما يُكلفهم به: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة/119]" مثلا.. وقد وضح صاحب الرسالة أن الإيمان القوى يلد الخلق القوى حتما ? وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان ? أو فقدانه ? بحسب تفاقم الشر أو تفاهته.. فالرجل الذى ينكب جيرانه ويرميهم بالسوء ? يحكم الدين عليه حكما قاسيا ? فيقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم :
" لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه " وتجد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يعلم أتباعه الإعراض عن اللغو ? ومجانبة الثرثرة والهذر يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت "
إن الأخلاق الفاضلة من نحو أعمال القلب والعقل والجوارح واللسان مثل صدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والرفق والرأفة، والدعاء، والذكر، وتلاوة القرآن، وكذلك حب اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، كلها داخلة في مفهوم العبادة، وذلك أن العبادة هي الغاية المحبوبة للّه والمرضية له ، كما قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات/56] ". وبها أرسل اللّه جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف/59] " والدين كله داخل في العبادة التي تتضمن غاية الذل للّه بغاية المحبة له ، ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركنا أساسيا من أركانه.
إن هذه الأخلاق الإيمانية- كما أطلق عليها ابن تيمية- هي وجه من الوجوه التي يتفاضل فيها الناس فيما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصه، يقول- رحمه اللّه تعالى-: من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن أن الناس يتفاضلون في حب اللّه ورسوله وخشية اللّه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر والعجب، والرحمة للخلق والنصح لهم، ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، ومصداق هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» .