تحويل القبلة وموقف اليهود بالأمس واليوم
راقب اليهود المعارك الدائرة بين المسلمين والمشركين رقابة المتحيز للوثنية وكان الظن أن يكونوا مع المسلمين في خندق واحد ضد الوثنية لأنها ذلك العدو المشترك فماذا وجد اليهود على ساحة القتال بدت من خلال المعركة الطحون شخصية المسلم انصع جوهرا إن المسلمين كرماء ثابتون على المبدأ يحبون الموت أكثر من حبهم للحياة يحبون محمدا كما لم يحب أحدا أحدا وإذن فقد بدا الفارق الهائل بين شخصية المسلم بخصائصها تلك وبين شخصية اليهود التي طبعت على البخل والنفاق والحرص على الحياة بل إنهم لحرص الناس عليها حتى من المشركين ويعني ذلك أن وجود اليهود مستحيل ما بقي المسلمين وبقاء أحدهما نفي للآخرون وأين الكيان اليهودي الجبان من ذلك المسلم الذي كان يحتضر على أرض المعركة وفي أخر رمق من حياته يقول لصاحبه أوتري قوسي إنه يثري الحياة التي يودعها لكنه يغرس بذورها وشمسه إلى مغربه
تحركت عقدة الشعب المختار لتثبت وجودها في محاولة لتصفية الوجود الإسلامي ولكن ماهي الوسيلة ؟ بالمواجهة العسكرية مستحيل لقد وافتهم الأنباء بالفدائية المثالية على الجبهة الإسلامية وكيف أن المسلم يحرص على الموت فتوهب له الحياة ثم هو يخوض معركة وهو على يقين من النصر غما بالعودة سالما بالأجر والغنيمة وإما الشهادة التي تمنحه حياة أخصب وأرحب ومن دمه الذي سال على أرض المعركة تثبت براعم جديدة أشبال جدد يواصلون المسير من أجل ذلك قرر اليهود بدافع من عقيدة الشعب المختار قرروا إعلان الحرب النفسية أولا : عن طريق أسئلة محرجة يوسوسون بها للمشركين إعناتا
ثانيا : ثم يمثل قولهم راعننا محرفين الكلم عن مواضعه
ثالثا : ثم كان موقفهم من تحويل القبلة
لقد كان تحويل القبلة واحدا من المواقف التي حاول فيها المغرضون تعريك النهر الجاري حتى لا يروي قلة ظماء وحجب الضوء الساطع حتى لا يهدى الحيارى ولكن الحق سبحانه وتعالى يرد السهام المسمومة إلى نحور الأعداء على نحو يبدو فيه الدرس مفيدا تتملاه العيون وتعيه قلوب ينبغي أن تكون على بصيرة بما يراد لها وبها وكيف تعيد لللحملة المستمرة عدتها على مدار الزمان حفاظا على شخصيتها التي يجب أن تبغي شاهدة على الناس يقول الحق سبحانه وتعالى سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم ...................
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى
تمهيد يهيء الأذهان لتقبل التحويل فماذا عن هذا المعنى ؟
لما كان تحويل القبلة حدثا مهما اقتضت مشيئته سبحانه وتعالى أن يهيء الأمة الإسلامية لتكون على مستواه يقول ابن القيم وتأمل حكمة العزيز الحكيم ولطفه وإرشاده في هذه القصة لما علم أن هذا التحويل أمر كبير كيف وطئه ومهده وذلله بقواعد قبله فذكر النسخ وأنه إذا نسخ شيئا أتى بمثله أو خير منه وإنه لقادر على ذلك فلا يعجزه ثم قرر التسليم للرسول إنه لا ينبغي أن يعترض عليه ويسأل تعنتا كما جرى لموسى مع قومه ثم ذكر البيت الحرام وتعظيمه وحرمته ذلك قبل ربع سيقول السفهاء وذكر ببانيه وأثنى عليه وأوجب اتباع ملته فقرر في النفوس بذلك توجهها إلى البيت بالتعظيم والإجلال والمحبة وإلى بانيه بالإتباع والموالاة والموافقة وأخبر تعالى أنه جعل البيت مثابة للناس يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا فالقلوبعاكفة على محبة دائمة الإشتياق إليه متوجهة إليه حيث كانت ثم أخبر أنه أمر إبراهيم واسماعيل بتطهيره للطائفين والقائمين والمصلين وأضافه إليه بقوله أن طهرا بيتي وهذه الإضافة هي التي أسكنت في القلوب من محبته والشوق إليه ما أسكنت وهي التي أقبلت بأفئدة العالم إليه فلما استقرت هذه الأمور في قلوب أهل الإيمان وذكروا بها فكأنها نادتهم أن استقبلوه بالصلاة ولكنها توقفت على ورود الأمر من رب البيت فلما نزل قول الحق فول وجهك شطر المسجد الحرام تلقاه الرسول والراسخون في الإيمان بالبشرى والقبول وكان عبيدا لهم ولقد استفاد الأجانب من هذا التوجيه الراشد فصاغوا ما يسمى بنظرية تحصين المتلقى
في الآيات من سورة البقرة سيقول السفهاء فيها ما يسمى بتحصين المتلقى فأين ذلك من الآيات ؟
يعني ذلك تزويد المجتمع بما يحميه من كيد أعداءه الذين قد يفاجئونه بما يربكه لكنه يكون يكون محصنا بما لديه من علم سابق بما سوف يحدث وفي ضوء ذلك المعنى فقد كان المتبادر طبق التسلسل الزمني أن يكون ترتيب الآيات النازلة بشأن القبلة هكذا قد نرى تقلب وجهك ثم يقول سيقول السفهاء ولكن الحق تعالى قدم الأولى على الثانية تزويد للأمة بما سوف يحدث لتستعد للمواجهة توطيا للثقة وإعدادا للجواب وإظهارا للمعجزة
يقول الرازي : عن الله أخبر عنهم قبل ان يذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد
أحدها : أنه إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه كان هذا إخبارا عن الغيب فيكون معجزا
ثانيها : أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك اولا ثم سمعه منهم فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولا
ثالثها : أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولا ثم ذكر جوابهم معه فحين يسمعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم يكون الجواب حاضرا انتهى
ومن الناحية النفسية فإن مفآجأة المكروه أشد والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الإضطراب وبذلك تهون الصدمة وتخف الروعة وتنكسر شوكة المكروه
يقول صاحب المنار :
وقالوا إن هذا خبر عظيم بمنحة جليلة ومنة للنعمة الكبيرة فلم جيء به معترضا في إطواء الكلام عن القبلة ولم يجيء ابتداء أو في سياق تعداد الآلآء والنعم
الجواب يجيب صصاحب المنار إن الله علم أن الفتنة بمسألة القبلة ستكون عظيمة وأن أهل الكتاب سيقولون إن محمدا ليس على بينة من أمر ربه لأنه غير قبلته ولو كان الله هو الذي أمره بالصلاة إلى بيت المقدس لما نهاه عنه ثانيا وصرفه عن قبلة الأنبياء ويقول المنافقون إنه صلى أولا إلى بيت المقدس استمالة لأهل الكتاب وذهالا لهم ثم غلب عليه حب وطنه وتعظيمه فعاد إلى استقبال الكعبة فهو مضطرب في دينه كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا وأمثال هذه الشبهات على كونها تدل على عدم الإعتدال في أفكار قائلها تؤثر في نفوس المسلمين فالمطمئن الراسخ في الإيمان يحزن لشكوك الناس وتشكيكهم في الدين ويحزن أيضا الضعيف لكنه غير متمكن من الإيمان فيضطرب ويتزلزل لذلك بدأ الله بإخبار المسلمين بما سيكون بعد تحويل القبلة من إثارة رياح الشبه والتشكيك ولقنهم الحجة وبين لهم ما فيها من الحكمة وجعل لهم منزلة دون سائر الأمم وهي أنهم أمة وسط لا تغلوا في شيء ولا تقف عند الظاهر وأنهم شهداء على الناس وحجة عليهم باعتدالهم في الأمور كلها وفهمهم لحقائق الدين وأسراره ومن أهمها أن القبلة التي يتوجه إليها لا شأن لها في ذاتها إنما العبرة فيها باجتماع أهل الملة على جهة واحدة وصفة واحدة عند التوجه إلى الله تعالى