هالني وأفزعني تقرير
الشفافية العالمي لعام 2009 والصادر عن منظمة الشفافية الدولية لوصف حالة
دول العالم المختلفة من حيث درجة الشفافية والنزاهة في التعاملات المالية
والإدارية ، وقد شمل التقرير مائة وتسع وسبعون دولة منها تسع وأربعون دولة
مسلمة.
وقد حزنت كثيراً عندما رأيت في مقدمة هذا التقرير كلاً من
الدانمارك ونيوزلندا والسويد والعديد من الدول الأوروبية الأخرى ، وازداد
حزني عندما رأيت اليهود المغتصبين قد جاءوا في المركز الثلاثين على العالم.
لكن
الفاجعة الكبرى التي صدمتني هي ترتيب الدول الإسلامية حيث جاءت قطر في
المركز الثالث والثلاثين وتبعتها الإمارات في المركز السابع والثلاثين ،
وفي ذيل التقرير جاءت مصر في المركز الحادي عشر بعد المائة ، وتبعتها اليمن
والعراق والسودان والصومال .
وبحسب هذا التقرير إذا قمنا بحساب متوسط
الفساد في دول العالم الإسلامي نجد أن درجة العالم الإسلامي هي 2.8 من 10 ،
مما يعني أن كل دول العالم الإسلامي قد رسبت بجدارة في هذا التقرير ، ومما
يعني أيضاً أن أكثر من سبعين بالمائة من التعاملات التي تتم داخل العالم
الإسلامي هي تعاملات فاسدة لا علاقة لها بالدين الإسلامي .
وقلت في نفسي
: مع تلك الضجة الهائلة حول خطر فيروس انفلوانزا الخنازير هل أصاب العالم
الإسلامي مرض أخطر منه وهو مرض انفلوانزا الفساد ؟ وهل وصل هذا المرض إلى
أشد درجاته أم أن الأيام تخفي لنا المزيد من عمليات الفساد الإداري ومن
المفسدين ؟
لا شك أنه لا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات من الفساد ، لكن
الحزن يزداد عندما نجد أن ثلث الفساد المالي في العالم مركزه الوطن العربي ،
وأن نصفه في العالم الإسلامي.
كيف يكون ذلك وقد كنا - كما وصفنا ربنا
سبحانه وتعالى - خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن
بالله.
كيف يكون ذلك وقد بُعث نبينا صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم
الأخلاق .
كيف يكون ذلك وقد كان الفساد المالي من أول المظاهر السلبية
التي عالجها الإسلام حين نهى عن الغش والاستغلال والسرقة والرشوة والربا
وغير ذلك من المعاملات الفاسدة.
كيف يكون ذلك وقد رغب ديننا الحنيف في
الزهد وعدم الطمع فيما عند الناس من متاع الدنيا فقال تعالى : وَلَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقَى [ طه : 131].
كيف يكون ذلك وقد أمرنا الله عز وجل
بالسعي لطلب الرزق الحلال في كثير من آيات القرآن الكريم، قال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ [البقرة: 267]
وقال عز وجل :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
[البقرة: 172] ، كما حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على طلب الرزق الحلال
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يأخذ
أحدكم حبله فيأتي بحُزمة الحطب على ظهره فيبعيها، فيكف الله بها وجهه، خير
له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" [البخاري: 1471] .
كيف يكون ذلك
وقد حرم الإسلام الرشوة ، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعلها فقال
: " لعن الله الراشي والمرتشي والرائش " [رواه أحمد والطبراني] واللعن من
الله هو: الطرد والإبعاد عن مظان رحمته ، ولا يكون إلا في كبيرة من الكبائر
، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل لحم
أنبته السحت فالنار أولى به " ، قيل: وما السحت؟ قال: " الرشوة في الحكم
".
كيف يكون ذلك وقد حذرنا ربنا سبحانه وتعالى من أن نأكل الأموال
بالباطل فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن
تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا [ سورة النساء : 29 ] وقال سبحانه : وَلاَ تَأْكُلُواْ
أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ [ سورة البقرة : 188].
كما حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم
من أكل المال الحرام ففي الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي حميد الساعدي
قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يُقال له ابن اللتبية
على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر أيُهدى له أم لا؟
والذي نفسي بيده لا يأخذ أحدٌ منكم شيئًا إلا جاء به يوم القيامة، يحمله
على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيْعرُ – أي :
تصيح - ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرة إبطيه – أي : بياض ليس بالناصع في
إبطيه - ثم قال: "اللهم هل بلغت (ثلاثًا)" [البخاري: 2597، ومسلم 1832] .
هل
أصبحنا نتساهل في أكل المال الحرام وأصبحنا لا نبالي من أين نحصل على
أموالنا ؛ تصديقًا لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم " ليأتينَّ على الناس
زمانٌ، لا يبالي المرءُ بما أخذَ المالَ: أمِنَ الحلال أم من الحرام" [صحيح
البخاري 2083 ]
هل لهذه الدرجة غاب الوازع الديني لدى الناس فمرضت
قلوبهم وفسدت ضمائهم ، وغلبهم الهوى والسعي نحو تحقيق المصالح الشخصية
فسَهُل عليهم أكل أموال الناس بالباطل ، وأصبح الموظف لا يؤدي عملاً إلا
إذا أخذ الرشوة مقابل أدائه لهذا العمل الذي هو في الأساس واجب عليه ويأخذ
في مقابله أجراً في نهاية الشهر .
لا شك أن هذا كله ناتج بسبب عدم تطبيق
ما أمر الله عز وجل به ، وعدم الانتهاء عما نهى عنه ، وعدم الالتزام
بأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية ، وكذلك بسبب ضعف الإيمان وانعدام الخوف
والخشية من الله عز وجل ، وكذلك انعدام المراقبة والمحاسبة الذاتية ،
ونسيان أو تناسي المحاسبة الأخروية .
لقد كان السلف الصالح يحرصون على
تحري الحلال ويتركون الشبهات مخافة الوقو ع في الحرام ، عملاً منهم بقول
النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن النعمان بن بشير
رضي الله عنه : " إنَّ الحلال بَيِّنٌ وإنَّ الحرام بَيِّنٌ وبينهما
مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس فمَنِ اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ
لدينه وعِرْضِه ومَنْ وَقَعَ في الشُّبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول
الحِمى يوشك أن يَرْتَعَ فيه " [ البخاري 2051، مسلم 1599]
وقد قال
الفاروق عمر رضي الله عنه : " كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشار الحلال؛ مخافةَ
الوقوع في الحرام "
وقال ابن المبارك: "لأنْ أرُدَّ دِرْهمًا من
شُبْهَةٍ؛ أحبّ إليَّ من أن أتصدَّق بمائة ألفٍ".
•
من المسئول ؟
لا شك أن المسئولية الكبرى تقع على عاتق الحكام
والحكومات ، فهم مسئولون أمام الله عز وجل عن كل مظاهر الفساد الإداري في
المؤسسات ، وعليهم أن يضربوا بيد من حديد على كل من تُسوِّل له نفسه أن
يقوم باختلاس الأموال العامة أو أخذ الرشوة مقابل القيام بعمل ما .
كما
يجب أن يكون للمؤسسة الرسمية متمثلة في الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف وقفة
إيجابية للحد من الفساد الإداري الظاهر في جميع المؤسسات والهيئات في
المجتمع العربي ، وكذلك على القائمين على الإعلام في العالم العربي وخاصة
الإعلام الإسلامي أن يقوموا بتوعية الناس وتذكيرهم بالله عز وجل وأنهم
سيقفون أمامه يوم القيامة فيسألهم عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها
.
• كيف السبيل :
لا بد من ترسيخ عقيدة
التوحيد في قلوب الناس وأن الله وحده هو الرزاق ، قال تعالى: وَمَا مِن
دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود: 6]
وكذلك
فإن حسن التوكل على الله و تفويض الأمر إليه سبحانه وتعالى من أعظم
الأسباب التي تقضى بها الحاجات و يندفع بها المكروه ، فعن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو أنكم تتوكلون على
الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا" [ صحيح
الترمذي: 1911] .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم قال: "إن روح القدس نفث في رُوعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل
أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم
استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا
بطاعته"[ صحيح الجامع للألباني ج1 حديث 2085].
لا بد لنا أن نعود وأن
نرجع إلى كتاب ربنا عز وجل وإلى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ففيهما
العصمة والنجاة ، وحتى نكون بحق خير أمة أخرجت للناس .
وصلى الله وسلم
وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وآخر دعوانا أن الحمد لله
رب العالمين