الزائر الذي لا بد منه
رغم أن الموت حقيقة واضحة لا لبس فيها فإن الإنسان يعتقد بأنه بعيد عنه وبذلك فهو منسي وفي طي الغيب وإن أصاب غيره فهذا واقع لا مراء منه ولكنه لن يأتي إليه الموت أصبح سلعة رائجة في كل وسائل الإعلام مجسدا في شاشات التلفزة مشفرا على صفحات الجرائد معلنا كنعيق البوم في الإذاعات علكة تلوكها الأعين والأفئدة بلا طعم ولا تسمن ولا تغني من جوع. أصبح حقيقة باهتة لا تحرك ساكنا ولا تثير راكدا وبذلك مات الإحساس في الناس بقيمة الموت وتأثيره وتداعياته على حاضرهم ومعاشهم وسعيهم ومبلغ همهم.
حتى ولو كان المتوفى قريبا عزيزا تدوم الصدمة أياما وأسابيع وشبح الموت يخيم على المنزل والإحساس بقربه وفلسفته وحقيقته تسود المكان ولكن سرعان ما تأخذ الأمور المعتادة مجراها وتعود تفاصيلها كما كانت ويتحول الموت إلى معنى مجرد لا يهتم الناس بمعرفته ولا يعير أحد بالا للمضامين التي يزخر بها.الموت قد يكون نهاية رحلة الناس في حياتهم القصيرة ولكنه بداية لولوج حياة حقيقية دائمة. وللأسف فإن ممارسات الناس الحياتية تنبئ بأن الدنيا هي حياتهم الفعلية التي يبذلون كل جهد لكسبها ونيل الحظوة والمكارم فيها، يتعاركون ويكيدون لبعضهم البعض يسفكون الدماء ويخططون المكائد ويشمتون بمصائب غيرهم ويكرهونهم ويتآمرون لتدميرهم، يسمحون للغيرة بأن تنهشهم وتسيرهم وللحقد أن يتملكهم، وللطمع أن يستولي على نفوسهم وللشر أن يستعبدهم. يبيعون أنفسهم للشيطان من أجل مكاسب الدنيا يحلمون بالشهرة والمجد والخيلاء والغنى وأعلى المناصب ويسفحون في سبيلها ما يعترض طريقهم ويقف بوجههم واضعين أهداف الدنيا نصب أعينهم ومبلغ أمانيهم وسعيهم وملء أعينهم وأفئدتهم وعقولهم كل ذلك وهم يدركون أنها مجرد رحلة، ولكن هل يدركون أنها أيضا رحلة قصيرة تحفها الأقدار وما شاء الله قدر حتى ولو استملكوا وتمكنوا ودانت لهم الرقاب فهناك إرادة إلهية فوق ما يعدون ويهيئون ويدبرون..
وفي النهاية يأتي الموت الزائر الخالد الذي يعيد هذا الإنسان المتخبط في غيه وصراعه وجبروته ولهاثه نحو الدنيا كجثة باردة إلى مثواها الأخير حيث تبدأ حياته الأبدية التي لم يهتم لها ويعطها قدرها بقدر حرصه وتكالبه على الدنيا وزيادة مكاسبه منها.كل نفس ذائقة الموت وفاز من أعد لها وحاسب نفسه واتقى الله في ضميره وعمله وعلمه ولسانه وماله وذمته وتعامله وخلقه ولكن البعض يعتقدون بأنه عندما تفنى أجسادهم فإنه لا عودة لهم وقد فروا بذنوبهم وتلاشت من الكون آثامهم كما أسقطوها في حياتهم من ذاكرتهم وهربوا منها.الآخرة.. دار الأبدية، ليست غامضة ولا مجهولة ولا ضائعة عن علم الإنسان حدودها واضحة وقائعها منطقية وثابتة ولكن غرور الإنسان يعميه ويحسبها بعيدة ومبهمة ومتوارية بينما الذي يشده ويستولي على انتباهه ما ينبض بالحياة ويتجسد بالحركة والانفعالات وينقاد لشياطينه وبشريته الفانية فيعب من نوافيرها العارمة التي مهما تحرقه شظاياها فإنه يطلب المزيد منها بجهل وغفلة.
بين الله للناس أنه ما خلقهم إلا ليعبدوه وأنه لا يحب الفرحين المتكالبين على متاع الدنيا وطوبى لمن صبر واستعان بالله وهل يحسبون أن يدخلوا الجنة من غير أن يمتحنهم الله ويعلم المؤمنين منهم حقا ومن يريد عرض الدنيا ويتمسح بربه رياء ومسكنة.هذه الدنيا هي الامتحان الأكبر وحرب النفس ورغباتها هي الجهاد الأصغر والإنسان يتخبطه الشيطان ويسري في دمه وكان الأحرى به أن ينزه نفسه عن المعاصي والآثام ولو كانت كلمة أو نظرة أو ظن سوء ويغلف معاملاته بالصدق والنزاهة ومخافة الله.