ما أروع كلمات الإمام على رضى الله عنه، وهو يصف القرآن الكريم: "كتاب الله
فيه نبأ من قبلكم،
وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من
تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله"
لقد استرجعت
هذه الكلمات النابضة بالفيض القرآنى الذى لا ينفد، وما فيه من استشراف
للمستقبل وتصديق لحقائق الواقع المشهودة،
حينما شاهدت محاكمة الرئيس
المخلوع مبارك، وتجلت معجزة القرآن الخالدة وآياته الباهرة فى هذه المحاكمة
التاريخية،
فهى أول محاكمة فى تاريخ الدول العربية قاطبة، التى يحاكم فيها
شعب حاكمه وبإرادته منفردا دون تدخل من قوى محتلة أو نفوذ دولة مستغلة.
فمن مشاهد الإعجاز القرآنى وما فيه من دلالات لا تنضب ومعان لا تنفد،
موافقة محاكمة المخلوع لليوم الثالث من رمضان إذ قرأت مساجد مصرـ
بل العالم
الإسلامى ـ الجزء الثالث من القرآن جريا على عادة ختام القرآن الكريم فى
صلاة التراويح،
وقد جاء فى هذا الجزء من القرآن الكريم وخاصة فى سورة آل
عمران الآية 26 منها قوله تعالى:
"قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء
وتنزع الملك من تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء
قدير".
وقد تجسدت هذه الآية الكريمة بكل ما فيها من معان جليلة وأحداث عظيمة فى
محاكمة الرئيس المخلوع مبارك، فبعد أن كان يملك مصر وما فيها،
من بشر وحجر،
صار لا يملك شيئًا حتى نفسه، وهذا يحيلنا إلى صورة أخرى من صور الإعجاز
القرآنى فى هذه المحاكمة،
والتى تصف حاله وحال كل حاكم جبار يغتر بما يملك
ولا يعلم أنه ليس له من الأمر شىء إذ يقول القرآن الكريم
على لسان فرعون
مصر قديما وحديثا
"ونادى فرعون فى قومه قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه
الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون" [الزخرف: 51].
وهذه الآية بدورها تحيلنا إلى مشهد آخر وإن كان سابقا لأحداث المحاكمة،
عندما كان مبارك يملك ويحكم ويسيطر ويعطى ويمنع كيفما شاء،
وحوله صفوة من
علية القوم ـ وزراء ورجال أعمال وأساتذة جامعات وغيرهم ـ يتسابقون
ويتسارعون ويتنافسون ليكون على مقربة منه لينالوا من عطاياه،
وغاية ما
يتمنون هم وعامة الناس ـ إلا ما رحم ربى ـ أن يكون مثله فى الثراء
والسلطان، أما اليوم بعد أن لم يغن عنه مال ولا بنون "
وأصبح الذين تمنوا
مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر،
لولا
أن منّ الله علينا لخسف بنا، ويكأنه لا يفلح الكافرون" [القصص: 82]
صورة قرآنية رائعة ترسم بآياتها الباهرة صورة ذلك المخلوع وما آل له، وكيف
كان من حوله، وكيف أصبحوا، وتزداد هذه الصورة جمالا ودقة
عندما تضع لنا فى
جانب من جوانبها، وفى زاوية من زواياها صورة وزيره حبيب العادلى، وقد
أذلهما الله بعدما عاثوا فى الأرض فسادا،
بقتل الأبرياء وتشريد البسطاء،
وتعذيب الأتقياء، وحتى تكتمل الصورة الربانية لهذه المحاكمة لا يغفل القرآن
أن يضع لنا صورة هؤلاء الذين ظلموا وقد أعزهم الله
وزادهم عزة وإيمانا
بعدما رفعوا أيديهم إلى السماء ودعوا
"أنى مغلوب فانتصر" [القمر: 10]
فاستجاب الله لهم ومنّ عليهم بفضله والله عزيز حكيم.
"ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين
*
ونمكن لهم فى الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون"
[القصص: 5 - 6]
ذلك المشهد الربانى المتجدد الذى رأيناه بأم أعيننا وقد أذل
الله فرعون/مبارك وهامان/العادلى وجنودهما/ أمن الدولة،
بقى أن يتحقق وعد
الله لنا أن يجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين، "وعد الله الذين آمنوا منكم
وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض
كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن
لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون
بى شيئًا
ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" [النور: 55] ولن يتحقق هذا
المشهد الربانى إلا إذا حققنا الشرط المنوط بنا،
وهو إقامة الدين "الذين إن
مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن
المنكر ولله عاقبة الأمور" [الحج: 41].
لقد اكتملت الصورة القرآنية من جميع الزوايا،
ولقد تحققت على أرض الواقع
مقدماتها من محاكمة الطواغيت، وإهلاك المفسدين، وسقوط دولة الظالمين،
وبقيت
النتيجة الحتمية لتحقيق الوعد الإلهى بالتمكين للمؤمنين العاملين،
وليس
مطلوبًا منا إلا التصديق والتطبيق للأمر الربانى حتى ننعم ونكون من
الفائزين،
"أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" [محمد: 24].