من أعظم ما ميّز الله به شهر رمضان المبارك ؛ تصفيد الشياطين فيه ، وإراحة
الخلق من شرِّهم وضُرِّهم ، وترك الفرصة مواتية لمن أسرف على نفسه بالذنوب أن
يتوب ، فمن صفَّدته الشياطين على مدى عامه المنصرم فلا يتحرك إلا في رضاها
تغيّر به الحال فصار القيد على عدوّه ،وأطلقه الله بعد قيده ، وحرّره من أسر
خصمه ، فماذا بقي له إلا الفرار إلى الله ؟!
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :"
إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة ، و غلقت أبواب جهنم ، و سلسلت الشياطين
(1) .
وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أتاكم شهر
رمضان ، شهر مبارك ، فرض الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة ، و تغلق فيه
أبواب الجحيم ، و تغل فيه مردة الشياطين ، و فيه ليلة هي خير من ألف شهر ، من
حرم خيرها فقد حرم " (2).
وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إذا كان
أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين و مردة الجن ، و غلقت أبواب النار فلم
يفتح منها باب ، و فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، و ينادي مناد كل ليلة
: يا باغي الخير أقبل ، و يا باغي الشر أقصر ، و لله عتقاء من النار ، و ذلك كل
ليلة (3) .
فرمضان فرصة عظيمة لكل مذنب ـ وكلنا ذاك الرجل ـ أن ينطلق في باحة الطاعة
الرحبة بعد أن كان في قبضة الشيطان أو كاد ، بعد أن فُكَّت عنه القيود ، و
حُلَّت الأصفاد .
ويعجب البعض من جرأة الناس على انتهاك حرمة الشهر المبارك بالولوج إلى سجن
المعصية ، والتلطخ بأوحال الذنوب ، والوقوع في شراك السيئة ، وقد فُقد المحرِّض
، وزال الموسوس ، وغاب المُزين …
فما معنى تصفيد الشياطين وما زال الناس يقعون في
الذنوب والمعاصي ؟!
والحقيقة أن هذا سؤال مهم ، والأهم منه أن نُجيب عليه ..
فنقول ـ وبالله نصول ونجول : إنه لا يمكن لذي عينين أن يُنكر إقبال الناس على
الخير في رمضان ، وكفِّ الكثير منهم عن الكثير من الذنوب والعصيان ، فها أنت
ترى المساجد تمتلئ بعد قطيعة ، والفقراء يغتنون بعد مسغبة ، والقرآن يُتلى بعد
هجر ، وترى معالم الإيثار بعد مظاهر الأثرة ، وتبصر النفوس تسكن ، والضمائر
ترتاح ، والقلوب ترضى ، والصلات تعود ، والروابط تقوى ، وغير ذلك مما لا تكاد
تراه في غير رمضان ، فهذا دليل ظاهر على الإقبال بعد الإدبار ، والرجوع عقب
التولي ، وفي أعداد التائبين الرمضانيين ما يفوق العد والحصر ، والمرد في ذلك
الخير إلى تصفيد الشياطين وسلسلتهم لمنعهم من وسوستهم …
ومن الردود على هذا الإشكال والإجابة على السؤال
، نقول :
* أن
الشياطين لا تخلص فيه لِما كانت تخلص إليه في غيره ، فتضعف قواها ، وتقل
وسوستها ، لكنها لا تنعدم بالكلية ..
* وربما
أن المراد بالتصفيد والسلسلة إنما هي للمردة ورؤوس الشياطين ، دونما من دونهم ،
فيفعل الصغار ما عجز عن بعضه الكبار ، وقيل العكس ، فالمصفد الصغار ، والمطلوق
كبيرهم وزعيم مكرهم وكيدهم لأن الله أجاب دعوته بأن ينظره إلى يوم يبعثون ،
ليواصل الإغواء والإغراء والإضلال ، وفي كلا الحالين فالعدد يقل ، والوسوسة
تضعف ..
* وربما
أن المراد أن الصيام يستلزم الجوع ، وضعف القوى في العروق وهي مجاري الشيطان في
الأبدان ، فيضعف تحركهم في البدن كأنهم مسلسلون مصفَّدون ، لا يستطيعون حراكاً
إلا بعسر وصعوبة ، فلا يبقى للشيطان على الإنسان سلطان كما في حال الشبع والري
..
* وربما
أن المراد أن الشياطين إنما تُغل عن الصائمين المعظمين لصيامهم ، والقائمين به
على وجه الكمال ، والمحققين لشروطه ولوازمه وآدابه وأخلاقه ، أما من صام بطنه
ولم تصم جوارحه ولم يأت بآداب الصيام على وجه التمام ، فليس ذلك بأهل لتصفيد
الشياطين عنه ..
* وربما
أن المراد أن الشياطين يصفدون على وجه الحقيقة ، ويقيدون بالسلاسل والأغلال ،
فلا يوسوسون للصائم ، ولا يؤثرون عليه ، والمعاصي إنما تأتيه من غيرهم كالنفس
الأمارة بالسوء ..
* والله أعلم بالمراد …
ومن المعلوم المفهوم والمحسوس الملموس أن الشياطين ينقسمون إلى شياطين إنس
وشياطين جن ، فمن يحمينا من شياطين الإنس الذين ينشط بعضهم في رمضان أكثر من أي
شهر آخر؟!
فهم يقومون بدور إبليس على أكمل وجه ، ويحتلون مكان الشيطان على أتمِّ صورة ،
ويهتفون في مسمعه البغيض ، نم فإن عليك شهر طويل عريض ، ونحن على آثارك مهتدون
، وبدورك قائمون ، وعن مهام حزبك مناضلون ، ونظرة منك فاحصة لِما يُعرض في أكثر
القنوات الفضائية في رمضان يثبت لك ما يقوم به شياطين الإنس من سوء وفحش يعجز
عن إخوانهم المصفدين ، فيا ليت شعري متى نرى القيود والأصفاد في أرجل هؤلاء
الشياطين المفسدين ، نعوذ بالله منهم أجمعين !
-----------------------
1- صحيح البخاري ومسلم
2- أخرجه أحمد في المسند والنسائي في السنن ، انظر : صحيح
الجامع رقم 55
3- أخرجه الترمذي والبيهقي وابن حبان والحاكم ، انظر : صحيح
الجامع رقم 759