ها نحن اليوم نقف لنأخذ الدروس والعبر، من قصة امرأتين أنعم الله عليهما بنعمة عظيمة، وأكرمهما بكرم منه، فجعلهما زوجتين لنبيين عظيمين من أنبياءه، ولكن الله عز وجل ضرب بهاتين المرأتين المثل للكافرين،
وهما امرأة نوح وامرأة لوط،
ضرب الله بهما المثل فقال:{اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أي: نبيين رسولين، هاتان المرأتان عندهما في صحبتهما ليلا ونهارًا يؤاكلانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط،
قيل: أن اسم امرأة نوح واعلة، واسم امرأة لوط واهلة.
وقال مقاتل:والعة ووالهة.
ولا فائدة من معرفة الاسم، وإلا لذكر الله تعالى اسميهما.{كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ} والتحتية هنا مجازٌ في معنى الصيانة والعصمة، {مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} وإنما خُصَّا بوصف عبدين صالحين مع أن وصف النبوة أَخَصُّ من وصفِ الصلاح: تنبيهاً إلى نساءِ المسلمينَ في معاملتهن أزواجَهُنَّ الصالحين، فإن وصفَ النبوةِ قد انتهى بالنسبةِ للأمةِ الإِسلاميةِ، مع ما في ذلك من تهويلِ الأذى لعبادِ اللهِ الصالحينَ، وعنايةِ ربِّهم بهم ومدافعتِه عنهم.
وقوله:{فَخَانَتَاهُمَا} أي: في الإيمان،لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة، بل كانتا كافرتين فلم يُجْدِ قربهما من الأنبياء شيئًا، ولا دفعَ عنهما محذورا؛ ولهذا قال: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: لكفرهما، فليس المراد بقوله: {فَخَانَتَاهُمَا} أي: في فاحشة، بل في الدين، فإن نساءَ الأنبياء معصوماتٌ عن الوقوع في الفاحشة؛ لحرمةِ الأنبياء.
قال الضحاك عن ابن عباس: "ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين.
أو قال: وإنما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تقول للناس :إنه مجنون، وإذا آمن به أحد أخبرت به الجبابرة،
وأما امرأة لوط فإنها كانت تدل قومه على أضيافه، فإذا نزل به ضيف بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه نزل به ضيف.
وقال الضحاك: "أن خيانتهما النميمة، فإذا أوحى اللَّه تعالى إلى نبييه شيئاً أفشتاه إلى المشركين"، وقال عكرمة: "الخيانة في كل شيء ليس في الزنا فقط".
قال الله: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} جعل الله حالة هاتين المرأتين عظةً وتنبيهاً للذين كفروا، أي ليُذكرهم بأن الله لا يصرفه عن وعيده صَارِفٌ، فلا يحسبوا أن لهم شفعاء عند الله، ولا أن مكانهم من جوار بيتِه وعمارة مسجده وسقاية حجيجه تصرف غضب الله عنهم، فإن هم أقلعوا عن هذا الحسبان أقبلوا على التدبر في النجاة من وعيده بالنظر في دلائل دعوة القرآن وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كان صارف يصرف الله عن غضبه لكان أولى الأشياء بذلك مكانة هاتين المرأتين من زوجيهما رسولي رب العالمين، لكن {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب اللَّه، تنبيهاً بذلك على أن العذاب يُدفع بالطاعة دون الوسيلة. فلم يمنعهما نبوة وصلاح زوجيهما مع كفرهما من الله شيئاً، بل{وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} أي قيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة: ادخلا النار مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا صلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام.
وقصة امرأة نوح لم ترد إلا في هذه سورة التحريم، إلا أن الله أشار لهلاكها في سورة هود فقال:{حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}(40)،
أما امرأة لوط فقد ورد ذكرها وذكر هلاكها مرارًا في عدة سور.
وبين نهاية سورة التحريم وبدايتها ربطٌ وصلةٌ، حيث تحدثت عن زوجات الرسول اللائي كانت تظهر منهن بعض المشاحنات أحيانا، فكأن الله يقول: لا يغركن أنكن زوجاتٌ للرسول وبذلك تدخلنْ الجنة، كلا، فالجنة لمن أطاعت زوجها، وكيف لو كان الزوجُ رسولَ الله؟ أليس مطلوباً منكن أن تكن أكثرَ استقامة؟ وفي هذا درسٌ لنساءِ اليومِ أيضًا، فكثير منهن ناشزات لأزواجهن رغم أنهن يفتخرن بأنهن زوجاتُ فلانٍ وعلانٍ، وربما أنهن صالحات يُصَلِّينَ ويفعلن الخير، لكنهن ناشزاتٌ يؤذين أزواجهن، وعلى العكس؛ فمنهن المظلوماتُ عند أزواج صالحين خيرين، لكنهم يؤذونَهن ويضيقوا عليهن، ألا فلتتقِ الله أولئك النسوة في أزواجهن، وليتق الله هؤلاء الأزواج في زوجاتهم، فما شرع الله الزواج ليظلم الزوج امرأته، ولا لتقصر المرأة في حق زوجها، وإنما من أجل السكن والمودة وإسعاد كلٍ منهما الآخر، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
منقول باختصار من مقال للدكتو إبراهيم دويش