عندما تكون الدعوة صامتة والقدوة ناطقة..مع ثمامة بن أثال!
تحية طيبة للجميع ؛ كنت أخرّج في حديث ثمامة بن أثال-رضي الله عنه- وقصة إسلامه ، وأصلها في صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب وفد بني حنيفة ، قال الإمام البخاري:
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد ، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه ، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال : عندي خير يا محمد ، إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ، فترك حتى كان الغد ، ثم قال له : " ما عندك يا ثمامة ؟ " قال : ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، فتركه حتى كان بعد الغد ، فقال : " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال : عندي ما قلت لك ، فقال : " أطلقوا ثمامة " فانطلق إلى نجل قريب من المسجد ، فاغتسل ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، يا محمد ، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين إلي ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : صبوت ، قال : لا ، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا والله ، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة ، حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.ا.هـ
وجدت نفسي مشدوهاً ومتوقفاً مع هذا الموقف النبوي الجليل ، ومع تلك اللحظة التي كانت سبباً في انتقال رجلٍ من بيئة جاهلية إلى بيئة إسلامية ..
إخواني وأخواتي:
تأملوا ثمامة ذلك الرجل العربي القادم من بيئة مغايرة موغلة في الجهل إلى بيئة حاضرة مدنية ، وتأملوا ذلك الأسلوب الإقناعي الذي مارسه النبي صلى الله عليه وسلم مع ثمامة ؛ أجدني أصل إلى نتيجة مفادها:
أن الغريب عن مجتمعٍ ما ، لا يُمارس عليه وسائل إقناعية بطرائق الحجج والجدل بقدر ما يحسن الداعية معه أن يكون قدوةً صالحة تحكي حقيقة الدين بعفوية بعيداً عن مظاهر التسميع والرياء.
تأمل أين رُبط ثمامة –رضي الله عنه- ؟! عند سارية المسجد ؛ هذا يقرر في نفوسنا أن اختيار المحضن التربوي لاستهداف المدعو هو غاية ينبغي أن تكون في الحسبان وتتم بدقة كبيرة ، كثيرٌ منا لا يبالي كيف يدعو؟ متى يدعو؟ أين يدعو؟ ولا يراجع طرائقه الدعوية ، فتجده ربما يسافر إلى الشرق أو الغرب ويحتك بثقافة وحضارة أخرى ومع ذلك تظل طرائقه الدعوية هي هي لم تتغير مع أنّ لديه بدائل يستطيع تكييفها بأن تكون محاضن تربوية مناسبة لاستهداف دعوي مسدد خصوصاً عبر الجمعيات المدنية التي تسهل الوصول للناس ، مثلاً أضرب لكم مثالاً واحداً ولا يعني الحصر ، مؤسسات رعاية المشردين في بلاد الغرب أو من يُصنفون بـ(ساكني الشوارع) هذه مؤسسات اجتماعية تقدم أدنى خدمة لمن ليس له مأوى أو منزل أو يُعرف عنه بفشل في حياته الاجتماعية ، ومن طبيعتها تقبل المتطوعين للعمل فيها والمشاركة إذ أنها فكرة طوعية بحتة ، بناءً على ذلك وهو الشاهد يستطيع الداعية الموفق وطالب العلم البصير أن يتطوع في هذه المؤسسات وأن يؤثر في منسوبيها دون أن ينطق بكلمة دعوية واحدة ، بل أن يكون قدوة في تصرفاته فكما يحكي مظهره تدينه عليه أن يجعل أخلاقه تحكي دينه أيضاً ، فمثلاً كم من (ثمامة) ماثلاً في وجوه كثير من المتخبطين في هذه الأرض ، فما أن تحسن تصرفك معه وتجعل من قدوتك سبيل للدعوة الصامتة = تجد الأمور تتغير وتتحسن وينكشف لك طريق إلى قلب المدعو ما كنت تتخيله..أيضاً من الأمثلة الأخرى والتي تشكل منفذاً دعوياً نسائياً هي دور الأيتام ، أعلم بعض الأخوات الفاضلات مَن استطاعت أن تشكل فريق عمل ناجح في إحدى دور الأيتام وأن يؤثرن عبر القدوة الصالحة في كثيرٍ من أخواتهن اللاتي نشأن في ظروف قاسية في هذه الدور فأصبحن بفضلٍ من الله خلايا صالحة لتأسيس بنية اجتماعية صالحة تستحق أن تنشر الخير في هذه الأرض.
أخي / أختي..
لئن كان أحدٌ في محيطك ابُتلي بأمور تقود إلى كبيرة أو وقع في شبهة فمارس معه تلك الدعوة الصامتة.. (القدوة)..قبل أن تنهال عليه بسياط التهديد والوعيد.
الناس ليسوا بحاجة إلى كثرة كلامٍ هذه الأيام بقدر حاجتهم ورؤيتهم إلى قرآن يمشي على الأرض ، بقدر حاجتهم إلى رجال ونساء (خُلقهم القرآن) حينها تعيش مجتمعاتنا في رخاء وأمن اجتماعي بعيداً عن ذلك النفاق المشبوب بمسوحٍ من قليلٍ علم أجوف وكثيرٍ من دجل زائف.
جُماع الأمر..
[أخلاقنا] قبل [مواعظنا]
أخيراً ..قد يعرض في نفسك أمر وهو من أنت حتى تكون قدوة؟!! ولعله يكون من مداخل الشيطان عليك.
فتأمل سؤال ابن القيم لشيخه الإمام ابن تيمية (مدارج السالكين 2/312)
وسألت يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن هذه المسألة ، عن قطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق*وبتنظيفها ؛ فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس – وهو جُبّ القذر- كلما نبشته ظهر وخرج ، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبُره وتجُوزه ، فافعل ، ولا تشتغل بنبشه ؛ فإنك لن تصل إلى قراره ، وكلما نبشتَ شيئاً ظهر غيره.
فقلتُ :سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ ، فقال لي : مثال آفات النفس مثل الحيّات والعقارب التي في طريق المسافر ؛ فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها ، والاشتغال بقتلها ؛ انقطع ، ولم يمكنه السفر قط ، ولكن لتكن همتك المسير ، والإعراض عنها ، وعدم الالتفات إليها ، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ، ثم امضِ على سيرك.
فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جداً ، وأثنى على قائله.ا.هـ
ما عندك يا ثمامة؟!
وأنت ما عندك..أيها القارئ؟؟
علّق وشاركنا الفائدة
خاطرة مرّت وأردت إثباتها هنا..!
--هوامش--
*=يعني الطريق للآخرة من نشر علم ودعوة وتزكية نفس.
فائدة: أفضل طبعة لكتاب مدارج السالكين لابن القيم هي الطبعة التي حققها الشيخ الفاضل عبدالعزيز الجلَيّل.والله أعلم.