جل يريد أن يوزع تركته على أولاده قبل وفاته بحجة أنه يخشى أن يختلفوا بعد مماته فما الحكم؟ وإذا كان يجوز للوالد أن يوزع أمواله على أولاده حال حياته فهل يعتبر ذلك ميراثاً رغم أن من شرط الميراث موت المورث؟ ولبيان الفقه في المسألة أردنا أن نضع المسألة موضع البحث والتقصي عن أراء العلماء وأهل الفقه ، إذ هي من المسائل التي تلمس الحياة اليفية والحضرية على حدٍ سواء.
التركة لا تكون تركة إلا بعد وفاة المورث
ينبغي أن يعلم أولاً أن التركة لا تكون تركة إلا بعد وفاة المورث، فقد عرَّف جمهور الفقهاء التّركة بأنها كلّ ما يخلّفه الميّت من الأموال والحقوق الثّابتة مطلقاً
وتنتقل ملكيّة التّركة جبراً إلى الورثة ولا يكون ذلك إلا بعد تحقق موت المورّث، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ انتقال التّركة من المورّث إلى الوارث يكون بعد وفاة المورّث حقيقةً أو حكماً أو تقديراً.
إذا تقرر هذا فإن توزيع الشخص لأمواله على أولاده لا يكون من باب الميراث وإنما يكون من باب الهبة، وحتى يصح هذا التصرف شرعاً لا بد أن تتحقق الشروط الآتية:
أولاً: لا بد أن يكون صاحب المال في كامل قواه العقلية والصحية، فإذا حصل هذا التصرف في مرض موته، فلا يصح، لأنه حينئذ يُعد بمثابة الوصية، ومن المقرر شرعاً أنه لا وصية لوارث إلا إذا أجازها بقية الورثة، لما ثبت في الحديث من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. ومرض الموت هو: المرض المخوف الّذي يتّصل بالموت، ولو لم يكن الموت بسببه، وهذا مذهب جمهور الفقهاء. وذهب الحنفيّة إلى أنّ مرض الموت: هو الّذي يغلب فيه خوف الموت، ويعجز معه المريض عن رؤية مصالحه خارجاً عن داره إن كان من الذكور، وعن رؤية مصالحه داخل داره إن كان من الإناث، ويموت
قال ابن المنذر:[ أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن حكم الهبات في المرض الذي يموت فيه الواهب: حكم الوصايا]. المغني 6/61.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[ وحكم العطايا في مرض الموت المخوف حكم الوصية في خمسة أشياء: أحدها أن يقف نفوذها على خروجها من الثلث وإجازة الورثة، الثاني: أنها لا تصح لوارث إلا بإجازة بقية الورثة، الثالث: أن فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة في الصحة... الرابع: أنه يزاحم بها الوصيا في الثلث، الخامس: أن خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ولا بعده.] المغني 6/193.
ثانياً: أن يقبض الموهوب له الهبة حال حياة الواهب، أي أن يحوزها الحيازة الشرعية بحيث يصير مالكاً لها وحر التصرف فيها، لأن من شروط صحة الهبة عند جمهور الفقهاء القبض، ويدل على ذلك ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: ( أن أبا بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله بالعالية، فلما مرض قال: يا بنية: كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ولو كنت جذذته أو قبضته كان ذلك، فإنما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب الله تعالى ). رواه مالك في الموطأ ورواه البيهقي كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 3/72-73.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي مستدلاً لهذا الشرط:[ ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف ... - ثم ذكر خبر عائشة رضي الله عنها السابق – ثم قال: وروى ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري أن عمر بن الخطاب قال: ما بال أقوام ينحلون أولادهم, فإذا مات أحدهم قال: مالي وفي يدي وإذا مات هو قال: كنت نحلته ولدي؟ لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد، فإن مات ورثه وروى عثمان أن الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغاراً قال المروذي: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة ] المغني 6/41-42.
وبهذا يتبين لنا أن ما يفعله بعض الناس من توزيع أموالهم وقسمتها على أولادهم، ثم لا يمكنونهم من التصرف فيها حال حياتهم، أي لا يقبضونها، فهذه القسمة غير ملزمة لأنها غير صحيحة ولا تعتبر هبة بل وصية للوارث وهي لا تصح لما ذكرته سابقاً.
ثالثاً: لابد من العدل بين الأولاد في الهبة والعطية، فالعدل بين الأولاد مطلوبٌ سواء أكان في الأمور المادية أو المعنوية، وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد على إعطاء أحد الصحابة لأحد أولاده عطية دون الآخرين كما جاء في الحديث عن عامر قال :( سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي أعطيةً فقالت عمرة بنت رواحة – أم النعمان – لا أرضى حتى تشهد رسول صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقـال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله . قـال صلى الله عليه وسلم: أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال: لا ، فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم . قال فرجع فردَّ عطيته ) رواه البخاري، وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان ( لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : نعم . قال: أشهد على هذا غيري ) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
ويدل على أنه يجب على الأب أن يسوي بين أولاده في الهبات والعطايا قوله صلى الله عليه وسلم: ( اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم ، اعدلوا بين أبنائكم ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح . وقوله صلى الله عليه وسلم:( سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء ) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: ( اعدلوا بين أولادكم في النِحَل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البِر ) رواه مسلم.
ومن الجدير بالذكر أن جمهور الفقهاء يرون أن الذكر والأنثى سواءٌ في الهبات والأعطيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد ( فسووا بينهم ) وفي روايةٍ أخرى ( أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء ) والبنت كالابن في وجوب برها لأبيها.